في مصر، يُثار كثير من النقاش حول سعر الدولار اليوم في البنوك مقارنةً بـ السوق الموازية (المعروفة شعبيًا بالسوق السوداء).
يعكس سعر الدولار في البنوك السعر الرسمي الذي تحدده وتلتزم به البنوك تحت إشراف البنك المركزي، بينما يمثل سعر الدولار في السوق الموازية قيمة العملة الأمريكية في التداولات غير الرسمية خارج النظام المصرفي.
خلال الفترات الأخيرة، شهدت مصر فروقًا كبيرة بين السعرين الرسمي والموازي؛ فعلى سبيل المثال في أوائل عام 2024 قفز الدولار في السوق الموازية إلى قرابة 60 جنيهًا بينما بقي سعره الرسمي في البنوك دون 31 جنيهًا فقط.
في هذا المقال المفصّل سنشرح أسباب وجود هذا الفرق في السعر، وتأثيراته على المواطنين والمستوردين والمستثمرين، إلى جانب نظرة محدثة على أسعار الدولار الحالية في مصر مقارنةً بين البنوك والسوق الموازية، وتحليل توجهات السوق والسيناريوهات المستقبلية المحتملة لسعر الدولار في مصر.
المقال مصوغ بأسلوب مبسّط وواضح ليناسب جميع المهتمين بالشأن الاقتصادي، ويتضمن جدول مقارنة لأسعار الدولار بين السوقين.
ما هو سعر الدولار في البنوك وما هي السوق الموازية؟
سعر الدولار في البنوك هو السعر الرسمي لصرف الدولار أمام الجنيه المصري كما تعلنه البنوك يوميًا، ويتحدد عادةً وفقًا لسياسات البنك المركزي المصري وعوامل العرض والطلب الرسمية.
هذا السعر هو المعمول به في المعاملات المصرفية الرسمية وتحويلات الأموال عبر البنوك. في المقابل، السوق الموازية للدولار تشير إلى التداول غير الرسمي للعملة الأمريكية خارج القنوات المصرفية المعتمدة.
كانت تُسمى سابقًا “السوق السوداء” لأنها تجري في الخفاء بعيدًا عن الرقابة، ولكنها اليوم تُوصف بـ”الموازية” نظرًا لانتشارها العلني نسبياً وإن كان نشاطها غير قانوني أو غير مراقب رسميًا.
الفارق الأساسي بين السعرين يكمن في آلية تحديد السعر: في البنوك يُحدد السعر رسميًا وقد يكون مدعومًا أو محددًا من قبل السلطات النقدية، أما في السوق الموازية فيخضع السعر لمبدأ العرض والطلب الحر تمامًا دون قيود.
لذلك، عند وجود قيود على تداول الدولار أو شُح في توفيره عبر القنوات الرسمية، يظهر سعر موازٍ أعلى من الرسمي نتيجة زيادة الطلب أو ندرة المعروض في السوق الحرة.
وجود سعرين مختلفين للدولار مؤشر على اختلالات في النظام النقدي؛ إذ تشير الأسواق الموازية للعملات الأجنبية إلى وجود تشوهات نقدية وعدم كفاية في الإمدادات الرسمية.
بعبارة أخرى، إذا لم يستطع البنك المركزي تلبية كل الطلب على الدولار بالسعر الرسمي، يلجأ الناس إلى السوق الموازية ويكونون على استعداد لدفع سعر أعلى من الرسمي للحصول على العملة الصعبة.
وفي تلك الحالة، يُفضل حائزو الدولار بيع ما لديهم في السوق الموازية لتحقيق ربح أكبر بدلًا من بيعه للبنوك بالسعر الرسمي المنخفض.
جدير بالذكر أن الفارق بين السعرين قد يختفي تمامًا أحيانًا. يحدث ذلك عند اتخاذ سياسات اقتصادية تعالج تشوّه سعر الصرف.
على سبيل المثال، في مارس 2024 حرّر البنك المركزي سعر الصرف وسمح لقوى السوق بتحديد سعر الدولار بشكل أكثر حرية، مما أدى إلى ارتفاع السعر الرسمي في البنوك بسرعة ليتساوى تقريبًا مع سعر السوق الموازية.
خلال يوم واحد فقط تلاشت السوق السوداء تقريبًا بعد إتاحة الدولار في البنوك بسعر السوق نفسه، وأصبح الفارق بين السعر الرسمي والموازي صفريًا تقريبًا باستثناء هامش طفيف للصرافات (حوالي 50 قرشًا فقط).
هذا التطور بيّن أن السوق السوداء ليست ظاهرة حتمية؛ فإذا عُومِلت أسبابها، يمكن أن تختفي أو تقل بشكل كبير.
لماذا يختلف سعر الدولار بين البنوك والسوق الموازية؟
هناك عدة أسباب جوهرية تؤدي إلى ظهور فرق بين سعر الدولار في البنوك والسوق الموازية في بعض الفترات. فيما يلي أهم هذه الأسباب:
- نقص الدولار في القنوات الرسمية: عندما تواجه البلاد نقصًا في العملات الأجنبية داخل البنوك نتيجة زيادة الطلب (سواء بسبب الالتزامات الاستيرادية أو سداد الديون الخارجية)، لا يستطيع النظام المصرفي تلبية كل احتياجات السوق. عندها يتوجه من لم يحصل على الدولار من البنوك إلى السوق الموازية مستعدًا لدفع سعر أعلى. هذا النقص قد ينتج أيضًا عن خروج رؤوس أموال أجنبية مفاجئ أو تراجع موارد الدولة من النقد الأجنبي (مثل السياحة أو الصادرات)، مما يسبب فجوة بين العرض والطلب الرسمي.
- السياسات النقدية والقيود الحكومية: فرض قيود على تحويلات العملة الصعبة أو استخدامها بشكل رسمي يدفع البعض للبحث عن حلول بديلة. على سبيل المثال، إذا حددت السلطات سقفًا لكمية الدولار المسموح بشرائها أو نقلها عبر البنوك، سيظهر سوق غير رسمي يلبي الطلب الإضافي. كذلك، تركيز البنك المركزي والبنوك على تمويل الواردات الاستراتيجية فقط (مثل السلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج) يعني أن المستوردين الآخرين سيعانون من شُح الدولار ويلجؤون للسوق الموازية لتأمين احتياجاتهم.
- الاستيراد غير الرسمي والتهريب: وجود تجارة غير شرعية أو عمليات استيراد غير رسمية لبعض السلع يعني حاجة مستوردي هذه السلع إلى الدولار من خارج النظام الرسمي. هؤلاء يشترون الدولار من السوق الموازية (السوداء) لتمويل صفقاتهم بعيدًا عن أعين الجهات الرقابية. هذا الطلب الإضافي لأغراض التهريب أو التجارة غير الرسمية يرفع سعر الدولار في السوق الموازية ويُبقي الفجوة قائمة. يعتبر الخبراء انتشار هذه الممارسات أحد أهم أسباب استمرار سوق موازية نشطة للعملة.
- المضاربة وتوقعات انخفاض الجنيه: العوامل النفسية والمضاربة تلعب دورًا كبيرًا. عندما يتوقع المواطنون أو التجار حدوث انخفاض في قيمة الجنيه (أي ارتفاع الدولار) بسبب ظروف اقتصادية أو قرارات قادمة، يسارع الكثيرون إلى شراء الدولار وتخزينه كملاذ آمن أو كمخزن للقيمة. هذا يزيد الطلب في السوق الموازية ويدفع السعر لمستويات أعلى. على سبيل المثال، خلال أواخر 2023 وبداية 2024 ارتفع دولار السوق الموازية بشكل حاد بسبب حالة ترقّب لقرارات البنك المركزي المصري وتبعات توترات إقليمية (الصراع في الشرق الأوسط آنذاك). هذه التوقعات السلبية دفعت البعض لشراء الدولار بأي سعر خوفًا من مزيد من ارتفاعه، ما غذّى ارتفاع السعر الموازي أكثر.
- فروق الأسعار والربح السريع: عندما يكون هناك فارق كبير بين السعر الرسمي والموازي، تتولد فرصة للمضاربة. البعض قد يحصل على الدولار بالسعر الرسمي (مثلاً من مصادر رسمية أو عبر تحويلات ملتزمة بالسعر الرسمي) ثم يعيد بيعه في السوق السوداء لتحقيق ربح فوري من فرق السعر. هذا الاستغلال للفجوة يغذي نشاط السوق الموازية ويزيد من عمقها. بالإضافة إلى ذلك، حائزو الدولار من أفراد وشركات يفضلون عدم بيع ما لديهم للبنوك طالما يعرفون أنهم سيحصلون على سعر أعلى خارجها، مما يقلل المعروض رسميًا ويفاقم المشكلة.
باختصار، معادلة الفارق بسيطة: كلما زادت القيود ونقص المعروض رسميًا، اتسعت الفجوة وزاد سعر الدولار في السوق الموازية؛ وكلما تحرر السوق وزاد المعروض أو الثقة، تقلصت الفجوة وربما اختفت.
تأثير فرق سعر الدولار على المواطنين
المواطنون العاديون هم الأكثر تأثرًا بشكل غير مباشر بوجود فارق كبير بين سعر الدولار الرسمي والموازي. فإذا ارتفع الدولار في السوق الموازية كثيرًا عن سعره في البنوك، ينعكس ذلك سريعًا على أسعار السلع والخدمات في السوق المحلية، خاصة المستوردة منها.
العديد من السلع الاستهلاكية في مصر إما مستوردة بالكامل أو يدخل في تصنيعها مكونات مستوردة؛ وعندما يضطر المستورد لشراء الدولار بسعر مرتفع من السوق الموازية، ترتفع تكلفة البضاعة وبالتالي يرتفع سعر بيعها للمستهلك النهائي.
النتيجة هي موجة غلاء تشمل السلع الغذائية والأجهزة والإلكترونيات ومواد البناء وغيرها، مما يضغط على قدرة المواطن الشرائية بشكل كبير.
لقد عانى المصريون بالفعل من معدلات تضخم مرتفعة بسبب موجات انخفاض الجنيه. خلال أزمة نقص الدولار الأخيرة، شهد الاقتصاد ارتفاعًا واسعًا في الأسعار واضطرابات اقتصادية، ووُصف الحال بأن المواطنين يرزحون تحت وطأة المعاناة الناجمة عن هذه الأزمة.
بمعنى آخر، فارق سعر الدولار تجلّى في زيادة حادة بتكاليف المعيشة. كذلك يؤثر فرق السعر على مدخرات الأسر؛ فمع تراجع قيمة العملة المحلية، تتآكل مدخرات المواطنين بالجنيه وتفقد جزءًا من قدرتها الشرائية، مما يدفع البعض لتحويل مدخراته إلى عملات أجنبية أو ذهب للحفاظ على قيمتها.
هذا السلوك (رغم منطقيته من وجهة نظر الأفراد) قد يؤدي إلى مزيد من الطلب على الدولار في السوق الموازية إذا لم يتوفر عبر البنوك.
علاوة على ذلك، الخدمات المرتبطة بالدولار كالرسوم الدراسية بالجامعات الخارجية أو تكاليف العلاج بالخارج أو حتى السياحة والسفر تصبح أكثر كلفة على المواطن.
فمَن لديه ابن يدرس في الخارج مثلًا ويحتاج لتحويل دولارات، سيجد صعوبة في الحصول على المبلغ من البنك بالسعر الرسمي المحدد (إذا كانت هناك قيود كمية)، فيضطر للجوء للسوق الموازية حيث السعر أعلى، مما يكبده مبالغ أكبر بالجنيه مقابل نفس القيمة بالدولار.
باختصار، المواطن يدفع الثمن النهائي لفارق السعر في صورة تضخم وارتفاع في تكلفة المعيشة.
تأثير فرق السعر على المستوردين
يشكل المستوردون إحدى أكثر الفئات ارتباطًا بشكل مباشر بفرق سعر الصرف بين البنوك والسوق الموازية. في الأحوال الطبيعية، يعتمد المستورد على البنوك لتدبير العملة الصعبة اللازمة لشراء البضائع من الخارج. لكن في فترات شُح الدولار رسميًا، قد لا يتمكن الكثير من المستوردين من الحصول على كامل احتياجاتهم عبر البنك بسعره الرسمي.
قام البنك المركزي المصري بوضع أولويات لتوفير الدولار تتركز في السلع الأساسية والإستراتيجية، وهذا يعني أن مستوردي السلع الكمالية أو المواد الخام غير الأساسية يواجهون صعوبة أكبر في تأمين الدولار بالسعر الرسمي. النتيجة أن هؤلاء يضطرون إلى الشراء من السوق الموازية لتسيير أعمالهم.
عندما يشتري المستورد الدولار من السوق السوداء بسعر أغلى من الرسمي، فإما يقلّص حجم استيراده (بسبب ارتفاع التكلفة وضعف القدرة المالية)، أو يرفع سعر بيع منتجاته النهائية لتعويض تكلفة شراء العملة الغالية.
في كلتا الحالتين هناك ضرر على الاقتصاد: إما نقص السلع في السوق إذا قلّ الاستيراد، أو ارتفاع أسعارها إن تم تمرير التكلفة للمستهلك. وهذا ما يُفسّر ارتفاع أسعار كثير من المنتجات المستوردة في الفترات التي شهدت اتساع الفجوة بين السعرين.
إضافةً إلى ذلك، يواجه المستورد مخاطر كبيرة في التخطيط والتسعير. تقلب سعر الدولار الموازي يعني أن التكلفة النهائية للبضاعة يمكن أن تتغير بين وقت الطلب ووقت السداد. هذا يجعل التسعير المسبق صعبًا ويخلق حالة عدم يقين للتجار.
بعض المستوردين ربما يؤجل أعماله أو يوقف استيراد سلع معينة لحين استقرار سعر الصرف، مما قد يؤدي إلى نقص سلع في الأسواق المحلية. كذلك يعاني المصنّعون المحليون الذين يعتمدون على مواد خام مستوردة: فإذا ارتفع الدولار الموازي ارتفعت تكلفة مدخلات الإنتاج، وانعكس ذلك على أسعار المنتجات أو قلّص هامش الربح للمصنعين.
بشكل عام، وجود سوق موازية نشطة للدولار يعني تشوهًا في بيئة الأعمال التجارية. المستورد الملتزم الذي يعتمد فقط على القنوات الرسمية قد لا يستطيع المنافسة إذا لم يوفر له البنك العملة المطلوبة، بينما المستورد الذي يلجأ للسوق السوداء يتحمل تكلفة إضافية وربما يخاطر قانونيًا أيضًا. لذا يشكل استقرار سعر الصرف وتقليل الفجوة عنصرًا حاسمًا لاستقرار قطاع الاستيراد والتجارة.
تأثير فرق السعر على المستثمرين
يتأثر المستثمرون – سواء المحليون أو الأجانب – بشكل واضح بحالة سعر الصرف والفارق بين السعر الرسمي والموازي. المستثمر الأجنبي ينظر إلى وجود سعرين للعملة على أنه علامة اضطراب اقتصادي؛ فهو قد يقلق بشأن صعوبة تحويل أرباحه إلى دولار وإخراجها من البلاد إذا رغب، أو يخشى من مزيد من انخفاض العملة المحلية بشكل مفاجئ.
في ذروة أزمة الدولار، واجه بعض المستثمرين الأجانب صعوبة في إعادة دولاراتهم أو أرباحهم عبر القطاع المصرفي الرسمي، مما دفع البعض للخروج المبكر من السوق المصري تفاديًا للمخاطر. وبالفعل حصل خروج لرؤوس أموال من سوق الدين والاستثمار في مصر مع تزايد التوترات الاقتصادية، الأمر الذي ساهم في زيادة الضغط على الجنيه المصري ودفع به إلى مستويات متدنية قياسية.
على سبيل المثال، في أبريل 2025 بلغ سعر الدولار نحو 51.7 جنيه بعد خروج الكثير من استثمارات الأجانب بسبب مخاوفهم من التوترات العالمية والسياسات النقدية. مثل هذه الحوادث توضح أن عدم استقرار سعر الصرف يدفع المستثمر إلى إعادة تقييم جدوى استثماره، وربما تجنب ضخ أموال جديدة.
أما بالنسبة للمستثمر المحلي أو رائد الأعمال، فإن وجود سوق موازية للعملة يخلق جوًا من عدم اليقين المالي. فإذا كان يدير مشروعًا يعتمد على مستلزمات أو معدات مستوردة، سيصعب عليه إعداد ميزانية واضحة في ظل تغير مستمر لسعر الدولار.
كذلك قد يفضل بعض المستثمرين المحليين الاحتفاظ بمدخراتهم بالدولار أو الذهب بدل استثمارها في مشاريع جديدة، في أوقات يشعرون فيها أن الجنيه في انخفاض مستمر.
هذا يعني تباطؤًا في الاستثمار المحلي المنتج، حيث يذهب جزء من السيولة إلى اكتناز الأصول الدولارية بدل تمويل مشروعات توسعية. إضافة إلى ذلك، تصنيف مصر الائتماني وتقييمات المخاطر للمستثمرين الدوليين تتأثر سلبًا بوجود سعرين؛ إذ يعتبر ذلك مؤشرًا على اختلال اقتصادي قد يتطلب إصلاحات صعبة.
في المجمل، استقرار سوق الصرف ووحدة سعر الدولار تعزز ثقة المستثمرين. أما وجود فجوة كبيرة بين الرسمي والموازي فيعني ارتفاع درجة المخاطرة الاستثمارية، مما قد يقلل شهية الاستثمار ويزيد من تكلفة التمويل على الدولة والشركات (بسبب مطالبة المقرضين بعوائد أعلى تعويضًا عن المخاطر).
مقارنة الأسعار الحالية بين البنوك والسوق الموازية
سنستعرض الآن نظرة محدثة على أسعار الدولار ونقارن بين السعر في البنوك المصرية والسعر في السوق الموازية، مع إعطاء أمثلة لفروق السعر في فترات مختلفة. الجدول التالي يوضح بعض المحطات الرئيسية خلال العامين الماضيين:
التاريخ | سعر الدولار في البنوك (رسمي) | سعر الدولار في السوق الموازية | الفارق التقريبي |
---|---|---|---|
نوفمبر 2023 | 30.90 جنيه | ≈ 47.00 جنيه | ≈ 16 جنيه (+52%) |
يناير 2024 | 30.00 جنيه تقريبًا | ≈ 60.00 جنيه | ≈ 30 جنيه (+100%) |
مارس 2024 | ≈ 49.50 جنيه | ≈ 49.50 جنيه | 0 جنيه (تكافؤ) |
أغسطس 2025 | ≈ 48.40 جنيه | ≈ 48.40 جنيه | 0 جنيه (تكافؤ) |
يتضح من الجدول أعلاه كيف تغيرت العلاقة بين السعر الرسمي والموازي بشكل دراماتيكي خلال فترة زمنية قصيرة. في أواخر 2023 اتسعت الفجوة بشكل كبير، حيث وصل الفرق إلى نحو 52% زيادة عن السعر الرسمي في نوفمبر 2023، بل وتضاعف السعر الموازي تقريبًا مقارنة بالرسمي في بداية 2024 (سعر السوق الموازية حوالي 60 جنيهًا مقابل 30 جنيهًا رسميًا).
هذه الفجوة الكبيرة قاربت 100% فرق في بعض الأوقات، ما يعني أن الدولار في السوق السوداء كان يبلغ ضعف قيمته في البنوك. لكن بعد قرارات تحرير سعر الصرف في مارس 2024، قفز السعر الرسمي في البنوك إلى نحو 49.5 جنيه مقتربًا جدًا من سعر السوق الموازية، مما أدى إلى اختفاء الفارق تقريبًا كما ظهر في الجدول حيث تساوى السعران عند حوالي 49 جنيهًا.
حاليًا في منتصف 2025، يُظهر السوق حالة استقرار نسبي وتوازن بين السعرين. يسجل الدولار حوالي 48.4 جنيه سواء في البنوك أو في السوق الموازية، أي أن الفارق أصبح معدومًا فعليًا مع وجود هامش طفيف لا يُذكر.
هذا التساوي يُعزى إلى نجاح سياسة البنك المركزي في القضاء على السوق السوداء عبر جعل سعر الصرف حرًا يخضع للعرض والطلب، بحيث لم يعد هناك معنى لأن يباع الدولار خارج البنوك بسعر مختلف عن داخلها.
بالطبع يظل هناك احتمال لنشوء فروق بسيطة بين حين وآخر (وفقًا لتغيرات طفيفة أو عمولات التحويل)، لكن بالمقارنة مع الفترات السابقة، الوضع الآن مستقر والأسعار موحّدة تقريبًا.
يجدر التنويه بأن هذا الاستقرار الحالي لا يعني حتمًا ثبات السعر عند هذا الرقم طويلًا، بل يعكس تكافؤ السعرين في هذه اللحظة. إن استمرار تكافؤ السعر الرسمي والموازي مرهون باستمرار السياسات والإجراءات التي تضمن تلبية الطلب على الدولار من خلال القنوات الرسمية وعدم حدوث صدمات جديدة تقلل المعروض أو تزيد الطلب بشكل مفاجئ.
توجهات السوق والسيناريوهات المستقبلية لسعر الدولار في مصر
بعد التقلبات الحادة التي مر بها سوق الصرف المصري في الفترة الأخيرة، يبقى السؤال: ما المتوقع لسعر الدولار في المرحلة القادمة؟ تكشف المؤشرات الحالية عن تحسن نسبي في وضع الجنيه المصري خلال عام 2025 مقارنة ببدايات 2024.
فقد استطاع الجنيه استعادة جزء من قيمته بعد تحرير سعر الصرف، بدعم من تدفقات أقوى للعملة الصعبة إلى البلاد وتراجع حدة بعض التوترات الجيوسياسية الإقليمية.
في يوليو 2025 مثلاً، وصل الجنيه إلى أقوى مستوى له منذ 9 أشهر، وتم تداول الدولار في البنوك عند حوالي 48.8 جنيه للشراء و48.9 جنيه للبيع، بعد أن كان قد تراجع إلى نحو 51.7 جنيه في أبريل من نفس العام.
هذا التحسن أتى نتيجة عوامل إيجابية مثل زيادة عائدات السياحة خلال موسم الصيف، وارتفاع تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وتحسّن ثقة المستثمرين نسبيًا.
بالنسبة للمستقبل القريب، لدى الخبراء رؤى مختلفة يمكن تلخيصها في سيناريوهات محتملة لسعر الدولار أمام الجنيه:
- سيناريو متفائل (تحسّن الجنيه): إذا استمرت المؤشرات الاقتصادية الكلية الإيجابية وتحسنت تدفقات النقد الأجنبي (مثل استمرار نمو السياحة، وزيادة الصادرات، وجذب الاستثمار الأجنبي)، فمن المتوقع أن يتراجع سعر الدولار تدريجيًا. يرى بعض المحللين إمكانية انخفاض الدولار إلى نطاق 47-48 جنيهًا بنهاية عام 2025. يدعم هذا السيناريو أيضًا تراجع الدولار عالميًا أمام العملات الرئيسية، مما ينعكس إيجابًا على الجنيه بحكم ارتباط الاقتصاد المصري بأوروبا والولايات المتحدة. كذلك تشير تحليلات دولية (مثل تقارير بنك جولدمان ساكس) إلى أن الجنيه المصري ربما لا يزال مقوّمًا بأقل من قيمته العادلة بنحو 30%، وقدّروا السعر العادل بحوالي 35 جنيهًا للدولار فقط في ضوء fundamentals الاقتصاد. هذا يعني أنه نظريًا يمتلك الجنيه فرصة قوية للتعافي أكثر على المدى المتوسط إذا تضافرت الظروف الملائمة واستعادت مصر تدفقات كبيرة من العملة الصعبة.
- سيناريو معتدل (استقرار نسبي): يتوقع فريق آخر من الخبراء أن يستقر سعر الدولار حول مستوياته الحالية مع تقلبات محدودة ضمن نطاق مثلاً 45 إلى 50 جنيهًا خلال الفترة المتبقية من العام. في ظل هذا السيناريو، لا يحدث تحسن كبير إضافي للجنيه، لكنه أيضًا لا يتدهور بشكل حاد، بل يخضع لعوامل العرض والطلب الطبيعية وتقلبات موسمية. يعتبر هؤلاء أن الحديث عن عودة الدولار إلى مستويات منخفضة جدًا (مثلاً 30 جنيهًا) أو قفزه إلى مستويات مبالغ فيها (مثلاً 55 جنيهًا) هو أمر مستبعد حاليًا ولا يستند لمعطيات واقعية. أي أن السوق قد وجدت نقطة توازن جديدة للدولار بعد التعويم الأخير، وستتحرك الأسعار حول هذه النقطة صعودًا أو هبوطًا بنسبة صغيرة (5-10%) تبعًا للظروف.
- سيناريو متحفظ أو سلبي (ارتفاع الدولار من جديد): على الجانب الآخر، لا يستبعد بعض المحللين ارتفاع الدولار مجددًا إذا ساءت الظروف أو تأخرت الإصلاحات. في هذا السيناريو قد يصل الدولار إلى حوالي 52 جنيهًا أو أكثر على المدى المتوسط. عوامل مثل تباطؤ الإصلاح الاقتصادي، أو تأخر الحكومة في تنفيذ خططها لجذب الاستثمار وبيع الأصول المقررة، أو حدوث أزمات عالمية جديدة (كارتفاع أسعار النفط بشدة أو اضطرابات مالية دولية) قد تعيد الضغط على الجنيه. كذلك إذا تراجعت إيرادات مصر الدولارية (مثلاً انخفضت السياحة بشكل غير متوقع، أو خرجت استثمارات أجنبية كبيرة، أو تأخر الحصول على شرائح تمويل دولية) فإن قوى السوق قد تدفع الدولار للارتفاع. هذا السيناريو وإن كان أقل ترجيحًا وفق المعطيات الحالية، إلا أنه يبقى ممكنًا ما لم يتم تعزيز منعة الاقتصاد المصري تجاه الصدمات.
من المرجح أن يكون عام 2025 عامًا حاسمًا في تحديد اتجاه سعر الصرف على المدى البعيد. نجاح السياسات الاقتصادية الحالية وتعزيز الاحتياطي الأجنبي واستمرار التنسيق مع صندوق النقد الدولي في برنامج الإصلاح سيحدد إلى حد كبير ما إذا كان الاستقرار الحالي مستدامًا.
إن سد الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي بشكل شبه كامل حاليًا هو علامة إيجابية ومطمئنة، لكنها تتطلب متابعة حثيثة. فالأهم هو معالجة جذور المشكلة: زيادة موارد الدولار من خلال تنمية الصادرات وجذب السياحة والاستثمارات، وتقليل الطلب عبر ترشيد الاستيراد وخاصة الكماليات، إلى جانب ضبط السوق الموازية عبر وسائل قانونية ورقابية لمنع المضاربات غير المشروعة.
في الختام، يمكن القول إن الفرق بين سعر الدولار في البنوك والسوق الموازية ليس مجرد رقمين في نشرة الأسعار، بل هو مرآة لحالة الاقتصاد. عندما يكون الاقتصاد قويًا وموارده الدولارية كافية، يتلاشى هذا الفرق ويستقر سعر الدولار في مصر ضمن نطاق معقول يمكن التنبؤ به.
أما في أوقات الأزمات والاختلالات، فإن اتساع الفرق ينذر بمشكلات تتطلب حلولاً جذرية. لذلك فإن الحفاظ على استقرار سعر الصرف واستمرار توحيد السعر بين السوق الرسمية والموازية يجب أن يكون هدفًا استراتيجيًا لصناع القرار لضمان استقرار اقتصادي يمس حياة المواطن اليومية واستدامة الأعمال والاستثمار في البلاد.