تخطى إلى المحتوى

كيف يؤثر البنك المركزي على سعر الدولار؟

  • بواسطة
يلعب البنك المركزي المصري الدور المحوري في توجيه سعر صرف الجنيه أمام الدولار عبر مجموعة من الأدوات والسياسات النقدية.

يُعتبر سعر الدولار مقابل الجنيه المصري من أبرز المؤشرات الاقتصادية التي تهم المستثمرين وأصحاب الأعمال والمواطنين على حد سواء، لما له من تأثير مباشر على تكلفة الاستيراد، ومستوى الأسعار المحلية، وجاذبية الاستثمار.

وفي مصر، يلعب البنك المركزي المصري الدور المحوري في توجيه سعر صرف الجنيه أمام الدولار عبر مجموعة من الأدوات والسياسات النقدية.

فيما يلي نظرة شاملة على كيفية تأثير البنك المركزي على سعر الدولار في السياق المصري، مدعومة ببيانات رسمية وأمثلة حديثة، وبشرح مُبسط للآليات الاقتصادية المعنية.

السياسة النقدية وأسعار الفائدة

تُعد السياسة النقدية وأداة سعر الفائدة من أهم وسائل البنك المركزي للتأثير على سعر صرف العملة. يقوم البنك المركزي برفع أو خفض أسعار الفائدة الأساسية بهدف تحقيق استقرار الأسعار وكبح التضخم، لكن هذا الإجراء يؤثر أيضًا في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار.

فعندما يقوم البنك المركزي برفع أسعار الفائدة، يزداد العائد على الجنيه مما يجذب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية الباحثة عن عوائد أعلى.

هذا يزيد الطلب على الجنيه ويرفع قيمته أو يدعم استقراره، وبالتالي قد ينخفض سعر الدولار نسبيًا. كما أن الفائدة المرتفعة تشجّع المدخرين المحليين على إبقاء أموالهم بالجنيه بدلاً من تحويلها إلى الدولار، ما يخفف الضغط على العملة المحلية.

في المقابل، فإن خفض أسعار الفائدة يقلل جاذبية الجنيه للاستثمار والادخار، وقد يدفع بعض رؤوس الأموال إلى الخروج أو يشجع على تحويل المدخرات إلى عملات أجنبية، مما قد يؤدي إلى ارتفاع سعر الدولار.

لقد استخدم البنك المركزي المصري أداة الفائدة بشكل نشط خلال السنوات الأخيرة لحماية الجنيه والحد من ارتفاع سعر الدولار. منذ عام 2022 وحتى مطلع 2024 تبنّى المركزي سياسة نقدية تقييدية، حيث رفع أسعار الفائدة بحوالي 19% إجمالاً خلال عامين ونصف بهدف كبح التضخم الناجم عن ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه.

وصلت معدلات الفائدة لمستويات قياسية (سعر الإيداع 27.25% والإقراض 28.25% بحلول نهاية 2024) بعد عدة زيادات متتالية. على سبيل المثال، في مارس 2024 عقد البنك المركزي اجتماعًا استثنائيًا قام فيه برفع الفائدة بمقدار 600 نقطة أساس (6%) دفعة واحدة، وذلك بالتوازي مع إجراء خفض كبير لقيمة الجنيه (سنأتي لتفاصيله) بهدف احتواء التضخم المتوقع من هذا الخفض.

وقد أوضح البنك المركزي في بيانه آنذاك أنه سيستمر في استخدام أدواته لكبح جماح التضخم والحفاظ على استقرار الأسعار، مع السماح لقوى السوق بتحديد سعر الصرف. بالفعل، أشارت تقارير لاحقة إلى نجاح نسبي لهذه السياسة في احتواء التوقعات التضخمية واجتذاب تدفقات من العملة الصعبة بعد توحيد السوق الرسمية والموازية.

كذلك أكد خبراء مصرفيون أن السياسة النقدية الحالية تعمل على كبح التضخم والحفاظ على استقرار سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية مما يخفف الضغوط على الأسواق المحلية. وبشكل عام، يظهر أن تحركات الفائدة من قبل المركزي المصري كانت إحدى خطوط الدفاع الرئيسية عن استقرار الجنيه في مواجهة موجات التضخم وارتفاع الدولار.

مع ذلك، لا بد من الموازنة بين كبح التضخم ودعم النمو الاقتصادي. فأسعار الفائدة المرتفعة وإن دعمت الجنيه مؤقتًا، إلا أنها ترفع كلفة الاقتراض المحلي وتبطئ الاستثمار.

لذلك يراقب المركزي المصري التطورات الاقتصادية عن كثب لتقرير توقيت تخفيف التشديد النقدي. فعلى سبيل المثال، في النصف الثاني من 2025 بدأ التضخم بالتراجع الطفيف، مما دفع البعض لتوقع بدء خفض الفائدة تدريجيًا لدعم النمو شرط استمرار استقرار سعر الصرف وتحسن المؤشرات بحسب محللين محليين.

يوضح ذلك أن البنك المركزي يعتمد سياسة حذرة توازن بين محاربة التضخم والحفاظ على جاذبية الجنيه، إدراكًا لتأثير كل منهما على سعر الدولار في السوق.

الاحتياطي الأجنبي والتدخل في سوق الصرف

إلى جانب أداة الفائدة، يمتلك البنك المركزي سلاحًا آخر لا يقل أهمية في التأثير على سعر الدولار، وهو إدارة الاحتياطيات الدولية والتدخل المباشر في سوق الصرف.

يحتفظ البنك المركزي المصري باحتياطيات من العملات الأجنبية (خاصة الدولار الأمريكي) تمكنه من التدخل عند الضرورة لضبط إيقاع السوق.

عندما يتعرض الجنيه لضغوط شديدة ويزداد الطلب على الدولار (مثلاً بسبب خروج رؤوس الأموال أو زيادة الاستيراد)، يمكن للمركزي ضخ كميات من الدولار من احتياطياته إلى السوق لزيادة المعروض وكبح ارتفاع سعره.

هذا التدخل المباشر يخفف التقلبات الحادة ويمنح الجنيه دعمًا مؤقتًا. والعكس صحيح، فقد يلجأ المركزي أحيانًا إلى شراء العملات الأجنبية لدعم الاحتياطي عندما يكون هناك فائض معروض من الدولار، وإن كان ذلك قد يؤدي لهبوط طفيف في قيمة الجنيه.

الجدير بالذكر أن حجم الاحتياطي النقدي الأجنبي بحد ذاته عامل مؤثر على استقرار العملة. فارتفاع الاحتياطيات لدى البنك المركزي يعزز الثقة بقدرته على تلبية الطلب على الدولار وتمويل الواردات وسداد الديون الخارجية، مما يردع المضاربين ويسهم في استقرار سعر الصرف.

وقد شهدت احتياطيات مصر من النقد الأجنبي تحسنًا ملحوظًا بعد الإصلاحات الاقتصادية؛ حيث بلغت نحو 47 مليار دولار بحلول أكتوبر 2024، وهو مستوى يُعتبر مطمئنًا نسبياً ويعطي صانعي السياسة مساحة أكبر للمناورة.

هذا الارتفاع جاء بدعم من تدفقات استثمارية وقروض دولية (مثل اتفاقيات صندوق النقد الدولي ودعم من دول الخليج)، الأمر الذي وفر سيولة من العملات الصعبة ساعدت البنك المركزي في الوفاء بالالتزامات الخارجية والحفاظ على توفر الدولار في السوق الرسمية.

في بعض الحالات، يستخدم البنك المركزي أدوات غير مباشرة لتقليل الضغط على سعر الصرف بدلًا من بيع الاحتياطي مباشرة. على سبيل المثال، في سبتمبر 2022 قرر البنك رفع نسبة الاحتياطي الإلزامي للبنوك (وهي نسبة الودائع التي يجب على البنوك إيداعها لدى المركزي بدون فائدة) من 14% إلى 18% لأول مرة منذ 2017.

يهدف هذا الإجراء إلى امتصاص السيولة بالجنيه من السوق (تشديد نقدي غير مباشر) لتقليل الطلب على الدولار، حيث إن تقليل المعروض النقدي المحلي يخفف من الضغوط التضخمية ومن قدرة المستوردين والمستثمرين على شراء الدولار.

وأوضح البنك المركزي أن هذه الخطوة من شأنها المساهمة في تقييد السيولة وبالتالي دعم استقرار الأسعار على المدى المتوسط. مثل هذه الأدوات الاحترازية تساعد المركزي في إدارة سعر الصرف دون استنزاف مباشر للاحتياطي.

رغم ذلك، يبقى التدخل المباشر عند الأزمات أداة حاسمة. فقد شهدنا في فترات سابقة قيام المركزي بضخ كميات كبيرة من الدولار لتغطية الطلبات العالقة للمستوردين عندما شحّت العملة الصعبة في السوق الرسمي.

لكنه توازن دقيق: فالإفراط في إنفاق الاحتياطي للدفاع عن مستوى معين لسعر الصرف قد يؤدي إلى استنزاف خطير للاحتياطيات إذا استمرت الضغوط، مما يُضعف الثقة ويجعل الوضع أشد سوءًا.

وقد حذرت المؤسسات الدولية من أن الحفاظ على احتياطي قوي أهم من محاولة تثبيت سعر صرف غير واقعي. لذا اتجهت سياسة المركزي مؤخرًا إلى ترك سعر الصرف يتحرك بحرية أكبر بدلًا من هدر الاحتياطي في الدفاع عن الجنيه عند كل موجة مضاربة.

وصرّح محافظ البنك المركزي حسن عبد الله أن البنك سيحتفظ بحقه في التدخل إذا شهد السوق “تحركات غير مبررة أو غير منطقية” في سعر العملة، ما يعني أن التدخل سيستخدم فقط لكبح المضاربات الحادة وليس لتثبيت سعر محدد بشكل دائم.

إدارة سعر الصرف: التعويم مقابل التثبيت

شهدت مصر خلال العقد الماضي تحولاً جوهريًا في نظام إدارة سعر الصرف من نموذج التحكم المشدد إلى نموذج أكثر مرونة (تعويم مدار). التعويم يعني ترك قوى العرض والطلب تحددان سعر الدولار مقابل الجنيه بشكل حر، مع اكتفاء البنك المركزي بالتدخل عند الضرورة القصوى.

أما التثبيت أو الإدارة المشددة لسعر الصرف فتعني أن البنك المركزي يحدد سعرًا رسميًا ثابتًا أو ضمن نطاق ضيق ويتدخل باستمرار عبر بيع وشراء العملات لضمان استقراره. لكل نهج إيجابياته وسلبياته، وتجربة مصر توفر دروسًا مهمة في هذا الصدد.

قبل عام 2016، اتبع البنك المركزي سياسة شبه تثبيت لسعر الجنيه أمام الدولار عند مستوى يقارب 8.8 جنيه لكل دولار. لكن تلك السياسة أدت إلى تراكم ضغوط هائلة وعدم توازن بالسوق: الطلب على الدولار فاق المعروض بكثير، ونضبت احتياطيات المركزي سريعًا في محاولة الدفاع عن هذا السعر غير الواقعي، مما أدى إلى نشوء سوق موازية (سوداء) ازدهرت فيها تجارة الدولار بأسعار تفوق الرسمي بنسب كبيرة.

وبحلول أكتوبر 2016 وصل الفارق بين السعر الرسمي والموازي إلى نحو 100%؛ إذ ارتفع الدولار في السوق السوداء إلى حوالى 18 جنيهًا بينما بقي رسميًا أقل من 9 جنيهات. هذا الوضع لم يكن مستدامًا وأضر بالنشاط الاقتصادي؛ فالاستيراد تعطل بسبب شح الدولار، والمستثمرون أحجموا عن إدخال العملة الصعبة لعلمهم بأن السعر الرسمي مبالغ فيه.

أدركت مصر ضرورة التحول إلى نظام أكثر مرونة. ففي 3 نوفمبر 2016 اتخذ البنك المركزي قرارًا تاريخيًا بـتعويم الجنيه المصري تعويمًا كاملًا وترك تحديد السعر لقوى السوق.

وقد تزامن ذلك مع رفع فوري لسعر الفائدة بمقدار 3% في نفس اليوم لامتصاص السيولة ودعم الجنيه. كانت النتيجة هبوطًا كبيرًا في قيمة الجنيه من نحو 8.8 جنيه للدولار إلى ما يقارب 15–16 جنيه خلال أيام قليلة، مما يمثل انخفاضًا يقارب 50% عن قيمته السابقة.

هذا التعديل الجذري كان صعبًا على المدى القصير لكنه ساهم في القضاء على السوق السوداء تقريبًا وإعادة تداول النقد الأجنبي إلى القنوات الرسمية.

وقد أشاد صندوق النقد الدولي بهذه الخطوة واعتبرها أساسية لمنح مصر قرضًا بقيمة 12 مليار دولار لدعم برنامج الإصلاح. وخلال أسابيع قليلة بعد التعويم، بدأت مظاهر الثقة تعود للاقتصاد المصري: ارتفع الاحتياطي الأجنبي بشكل ملحوظ مع دخول أكثر من 3 مليارات دولار للبنوك في أقل من شهر، وقفزت البورصة المصرية لمستويات تاريخية مدفوعة بتفاؤل المستثمرين الأجانب.

كما أخذ سعر الجنيه يتحسن تدريجيًا بعد الصدمة الأولية؛ فبعد أن تجاوز الدولار 18 جنيهًا لفترة وجيزة، عاد الجنيه وتحسّن إلى نحو 16 جنيهًا للدولار بنهاية 2016، مدفوعًا بعودة التدفقات والاستقرار النسبي الذي تحقق.

وأصبح الاقتصاد المصري أكثر تنافسية وجاذبية للصادرات والاستثمارات بفضل سعر الصرف الجديد الواقعي. وبالفعل سجلت الصادرات المصرية ارتفاعًا بنحو 8.6% في العام التالي مستفيدة من انخفاض قيمة الجنيه.

غير أن نجاح تعويم 2016 لم يكن نهاية المطاف، إذ بعد فترة من الاستقرار النسبي (2017–2020) واجهت مصر تحديات جديدة عصفت باستقرار الجنيه.

فعلى الرغم من استقرار الدولار قرابة 15.7 جنيه خلال 2019–2021 بدعم من الثقة المكتسبة وسياسة الفائدة المرتفعة التي جذبت استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية، جاءت صدمة جائحة كوفيد-19 ثم الحرب الروسية الأوكرانية 2022 لتعيد الضغط بقوة على الجنيه.

خرجت كميات كبيرة من استثمارات المحافظ الأجنبية من الأسواق الناشئة – ومنها مصر – خوفًا من المخاطر العالمية، وتراجعت موارد النقد الأجنبي (خاصة من السياحة والاستثمار) بينما ارتفعت فاتورة الواردات والسلع الأساسية.

وجد البنك المركزي نفسه مضطرًا للتدخل مجددًا في مارس 2022 عبر خفض قيمة الجنيه بحوالي 14% في خطوة مفاجئة، فارتفع سعر الدولار رسميًا من ~15.7 جنيه إلى حوالي 18.2 جنيه.

تزامن ذلك أيضًا مع رفع فائدة طارئ بـ1% لامتصاص التضخم المتوقع ووقف نزيف خروج الأموال. برر المحافظ آنذاك هذه الخطوة بأنها “تصحيح لوضع الجنيه” لتتناسب قيمته مع التطورات المحلية والعالمية، وأن ذلك سيعزز القدرة التنافسية للصادرات ويحمي احتياطي النقد الأجنبي.

رحب المحللون بهذا التحرك ورأوا أنه كان ضروريًا واقترب من القيمة العادلة للجنيه، لكنهم أشاروا إلى أهمية ترك العملة تتحرك بمرونة لاحقًا وعدم العودة لنهج التثبيت الذي يؤدي إلى اختلالات وتخفيضات حادة مستقبلًا.

ورغم تلك الخطوة، استمر الضغط على الجنيه خلال 2022. فقد تكرر مشهد النقص في الدولار وعودة الفجوة بين السعر الرسمي والموازي أواخر العام، مما اضطر البنك المركزي لتنفيذ خفض ثانٍ كبير في أكتوبر 2022 بنحو 17–19% إضافية، تبعه خفض ثالث في أوائل 2023.

بحلول ذلك الوقت كان الجنيه قد فقد نسبة كبيرة من قيمته وتجاوز الدولار 30 جنيهًا رسميًا في أوائل 2023 بعد أن كان 19 جنيهًا قبل عام. أدت هذه التخفيضات المتتالية (بدلاً من التعويم الحر منذ البداية) إلى حالة من عدم اليقين وظهور سوق سوداء مجددًا تجاوز فيها الدولار 40 جنيهًا أواخر 2023.

وتشير التقديرات إلى أن الجنيه خسر أكثر من ثلثي قيمته مقابل الدولار منذ أوائل 2022 وحتى مطلع 2024 بسبب سلسلة التخفيضات تلك. رافق ذلك ارتفاع كبير في معدل التضخم الذي بلغ مستويات تاريخية (تجاوز 30% سنويًا خلال 2023)، مما أضر بالقوة الشرائية للمصريين.

في نهاية المطاف، وجدت السلطات النقدية أنه لا بديل عن العودة لمسار التعويم المرن والتخلص من تشوهات السوق. ففي مارس 2024 اتخذ البنك المركزي قرارًا جريئًا بـتحرير سعر الصرف بشكل كامل وتوحيد السعر الرسمي مع الموازي، بالتزامن مع حزمة إجراءات إصلاحية ودعم دولي.

ترك المركزي الجنيه لقوى العرض والطلب تمامًا هذه المرة، فشهدت السوق قفزة في سعر الدولار من حوالي 30.85 جنيه إلى ما يفوق 50 جنيهًا للدولار في أيام قليلة قبل أن يستقر السعر الرسمي قرب 49.4 جنيه/دولار بنهاية ذلك اليوم التاريخي.

ولمنع انفلات التضخم أكثر، قرر البنك المركزي في نفس الجلسة الاستثنائية رفع أسعار الفائدة 6% إضافية لتصل مستويات غير مسبوقة. تزامن هذا التحرير مع إعلان مصر عن اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتوسعة برنامج الدعم المالي وزيادة القرض إلى 8 مليارات دولار، مما وفر غطاءً من التمويل الخارجي.

وأكد البنك المركزي في بيانه أنه ضمن توفير التمويل الكافي لتلبية طلب السوق من النقد الأجنبي بعد التعويم، مشيرًا إلى أنه حصل على تأمينات وتمويلات خارجية كافية لتعزيز السيولة الدولارية اللازمة لاستقرار الانتقال.

كما شدد على تبني إطار جديد يستهدف التضخم كهدف اسمي رئيسي مع ترك سعر الصرف لقوى السوق بشكل دائم، بما يضمن امتصاص الصدمات الاقتصادية بسلاسة أكبر.

وقد اعتُبر توحيد سعر الصرف الرسمي والموازي خطوة جوهرية لإنهاء الاختناقات في وفرة العملة الأجنبية وتخفيف الأزمة في الأسواق، إذ أن وجود سعرين للدولار كان يعوق حركة التجارة ويثني المستثمرين عن التعامل الرسمي.

نتائج هذه الخطوة بدأت بالظهور تدريجيًا. فمع التحرير الكامل للسعر، اختفت تقريبًا الفجوة بين السعر الرسمي والآخر الموازي وعادت عمليات الاستيراد والتمويل عبر البنوك لمجراها الطبيعي.

ورغم وصول الدولار لمستويات عالية (~50 جنيه)، إلا أن توفره أصبح أفضل وانحسرت ظاهرة تكدس البضائع في الموانئ بسبب نقص العملة.

كما أن التوقعات بدخول استثمارات خارجية كبيرة (مثل الاتفاقية مع صندوق أبوظبي السيادي لاستثمار 24 مليار دولار وتحويل ودائع خليجية إلى استثمارات) ساهمت في تهدئة السوق، حيث تراجع سعر الدولار في السوق الموازية من أرقام تجاوزت 60 جنيهًا قبل الإعلان إلى أقل من 50 جنيه بعده.

هذا يدل على أثر الثقة والتوقعات الإيجابية في دعم الجنيه فور تطبيق سياسة شفافة لسعر الصرف. وبحلول أواخر 2024، بدأ التضخم السنوي بالتراجع نسبيًا من ذروته (انخفض إلى نحو 24% في يناير 2025 مقابل أكثر من 30% منتصف 2023)، مدفوعًا بالتشديد النقدي وانحسار أثر الصدمات.

واستقر سعر الدولار في نطاق أواخر الأربعينات جنيه، مع ميل نحو الهدوء النسبي في السوق الرسمية. ويتوقع خبراء الاقتصاد أن استمرار تبني سعر صرف مرن سيجنب البلاد تكرار صدمات التخفيض الحادة مستقبلاً، حيث “لوحظ تاريخيًا أن الإدارة الثقيلة لسعر الصرف أدت إلى اختلالات ونقص عملة أعقبها هبوط مفاجئ لقيمة الجنيه مع ارتفاع في التضخم، مما قوّض الثقة وأضر بالنشاط الاقتصادي؛ في حين أن الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن بشكل مستدام من شأنه السماح بتعديل سلس للاقتصاد مع الصدمات الخارجية، ودعم تنافسية الصادرات، وجذب الاستثمارات، فضلًا عن الحفاظ على احتياطيات البنك المركزي من الاستنزاف”.

لهذا السبب يركز برنامج الإصلاح المدعوم دوليًا على ترسيخ مرونة سعر الصرف كركيزة أساسية لاستقرار الاقتصاد الكلي في مصر.

خلاصة

في السياق المصري، يتضح أن البنك المركزي المصري يؤثر بشكل جوهري على سعر الدولار من خلال مزيج من السياسات النقدية (خاصة إدارة أسعار الفائدة) وإجراءات إدارة سوق الصرف (بما في ذلك التدخل باستخدام الاحتياطيات وتعديل نظام الصرف بين تعويم وتثبيت).

لقد أثبتت التجارب الحديثة أن القرارات التي يتخذها المركزي – مثل تعويم العملة أو تغيير معدلات الفائدة أو ضبط السيولة – لها تداعيات مباشرة على قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار.

فالتشديد النقدي ورفع الفائدة ساهما في تخفيف الطلب على الدولار وكبح التضخم إلى حد ما، بينما كان لسياسة سعر الصرف المرن وتوحيد السوق أثر إيجابي في تقليص الاختلالات وجذب التدفقات الاستثمارية.

وفي المقابل، أدت فترات الإدارة الصارمة لسعر الصرف دون مراعاة معطيات السوق إلى تفاقم الأزمات وضرورة إجراء تخفيضات حادة لاحقًا. من هذا المنطلق، يحرص البنك المركزي على تعزيز المصداقية والثقة عبر تبني سياسات مدروسة تستند إلى البيانات الاقتصادية المحلية والالتزام بتوصيات المؤسسات الدولية، لضمان استقرار النقد وتحقيق التوازن في الأسواق.

بالنسبة للمستثمرين ومجتمع الأعمال في مصر، فإن متابعة قرارات وإشارات البنك المركزي أصبحت ضرورة لفهم اتجاهات سعر الصرف. فخبرة السنوات الأخيرة أظهرت أن خبرة المركزي واستجابته للتطورات كانت عاملاً حاسمًا في رسم خارطة سعر الدولار.

ومن المتوقع أن يستمر المركزي في استخدام كافة أدواته المتاحة للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي – بما في ذلك التحكم في التضخم وتوفير السيولة الأجنبية عند الحاجة – الأمر الذي سينعكس على سعر الجنيه المصري واستقراره.

في النهاية، يعد تحقيق الاستقرار النقدي هدفًا مشتركًا للسياسة النقدية والمالية في مصر، لضمان بيئة اقتصادية جاذبة ومستدامة تدعم النمو وتخفف العبء عن كاهل المواطنين.

القرارات الرشيدة للبنك المركزي، المبنية على التحليل الدقيق والشفافية، ستظل مفتاح التأثير الإيجابي على سعر الدولار وتحسين الثقة في الاقتصاد المصري على المدى الطويل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *